
تحسين وظائف مسحوق الحليب منزوع الدسم من خلال تحسين ظروف التجفيف بالرش
يُعد مسحوق الحليب منزوع الدسم (SMP) مكوّناً أساسياً في سلاسل الغذاء العالمية، إذ يوفر منتجاً خفيف الوزن، طويل الأمد وغنياً بالعناصر الغذائية يُستخدم في العديد من الصناعات. من الأغذية والمشروبات إلى الأدوية ومستحضرات التجميل، يساهم هذا المسحوق كعنصر متعدد الاستخدامات لتحسين القوام، الثبات، الاستحلاب والقدرة على التجلط. ومع ذلك، فإن الأداء الوظيفي لمسحوق الحليب منزوع الدسم ليس ثابتاً؛ بل يعتمد بشكل كبير على الظروف التقنية أثناء الإنتاج، وخاصة ظروف التجفيف بالرش.
يُعتبر التجفيف بالرش الطريقة الأكثر كفاءة واقتصاداً لتحويل الحليب السائل إلى مسحوق. تتضمن هذه العملية تحويل الحليب إلى قطرات دقيقة وتجفيفها بسرعة باستخدام هواء ساخن. ورغم أن هذه الطريقة تضمن تجانساً جيداً، إلا أنها تطرح تحديات كبيرة. إذ يمكن أن يؤدي ارتفاع الحرارة إلى تدمير البروتينات الحساسة، بينما قد تظهر مشاكل مثل التكتل، الذوبانية الضعيفة أو تغيّر اللون. ركّزت هذه الدراسة على عاملين رئيسيين في هذه العملية: درجة حرارة الهواء الخارج وضغط هواء الرش.
اعتمد الباحثون على استراتيجية تحسين متعددة المعايير، مستخدمين أدوات تحليل متقدمة مثل منهجية سطح الاستجابة (RSM)، تحليل المكونات الرئيسية (PCA)، وخوارزمية وراثية تطورية. سمحت هذه الأدوات بفهم التفاعلات بين المتغيرات، تحقيق التوازن بين النتائج المتعارضة، وتحديد الظروف المثالية لإنتاج مسحوق حليب عالي الجودة وقابل للاستخدام الصناعي.
الخلفية والأهمية الصناعية
تعتمد خصائص مسحوق الحليب منزوع الدسم الوظيفية على استخدامه النهائي. على سبيل المثال:
- تؤثر سهولة الجريان على دقة الجرعات وكفاءة الإنتاج في الصناعات الدوائية والمخابز.
- قدرة التجلط ضرورية في منتجات الألبان مثل الزبادي والأجبان.
- إعادة الذوبان مهمة في صناعة المشروبات لضمان الذوبان السريع والحفاظ على القيم الغذائية.
- يُستخدم SMP كحامل للمركبات النشطة بيولوجياً في التطبيقات الطبية والتغذوية.
تكمن صعوبة إنتاج SMP في تعدد العوامل المؤثرة: تركيب الحليب الخام الذي يتغير حسب الموسم، المعالجات المسبقة مثل البسترة أو التجانس، وكذلك المعالجات اللاحقة والتخزين. لكن تظل عملية التجفيف بالرش هي الأكثر حسماً في تحديد الخصائص النهائية للمسحوق.
أهداف الدراسة
هدفت هذه الدراسة إلى:
- تحليل تأثير درجة حرارة الهواء الخارج وضغط الرش على الخصائص الفيزيائية والكيميائية مثل الرطوبة، استقرار البروتين وحجم الجسيمات.
- تقييم النتائج الوظيفية بما في ذلك الجريان، التجلط، اللون، الذوبانية والتفاعلات مع الماء.
- تطبيق تقنيات تحسين متعددة المعايير لتحقيق التوازن بين الحفاظ على البروتينات الحساسة، الثبات التخزيني وسهولة الاستخدام الصناعي.
أُجريت التجارب باستخدام مجفف رش تجريبي (MicraSpray MS 150) على نطاق تجريبي مع مدى درجات حرارة بين 75–95 °م وضغوط هواء بين 1–3 بار. تم تنفيذ 11 تجربة، وجُمعت بيانات دقيقة عن التركيب الكيميائي، خصائص الجريان، سلوك التجلط، التفاعلات مع الماء وقياسات اللون.
النتائج الأساسية للخصائص الفيزيائية والكيميائية
المادة الجافة والنشاط المائي: أدت درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة المحتوى الصلب حتى 96.55% وتقليل النشاط المائي، مما عزز الحفظ وأطال العمر التخزيني، لكنه زاد من حساسية المسحوق للرطوبة.
البروتينات: بقيت الكازينات مستقرة نسبياً، بينما تعرضت بروتينات الشرش (α-لاكتالبومين وβ-لاكتوغلوبولين) للانحلال الحراري. هذا الانحلال خفّض الذوبانية لكنه حسّن قدرة التجلط.
توزيع حجم الجسيمات: كان الضغط العامل الأكثر تأثيراً؛ الضغوط المرتفعة أعطت جسيمات صغيرة زادت من الالتصاق وقللت الجريان، بينما أدت الضغوط المنخفضة إلى جسيمات أكبر سهلت التداول الصناعي.
الخصائص الوظيفية
سهولة الجريان: تحسنت مع درجات الحرارة العالية بفضل تقليل اللزوجة وتكوين جسيمات كروية. لكن الضغط المرتفع قلل من الجريان بسبب تكوين جسيمات دقيقة ذات سطح كبير.
التجلط: المساحيق المجففة عند درجات حرارة وضغوط عالية أعطت جل أكثر صلابة وأسرع في التكوين، في حين أنتجت الظروف المنخفضة جل أضعف وأبطأ. أظهرت الصور المجهرية هياكل أكثر انتظاماً وكثافة عند الظروف المثالية.
اللون: درجات الحرارة العالية زادت من تفاعلات ميلارد، ما أدى إلى لون أغمق، بينما الضغوط العالية زادت من درجة السطوع نتيجة للجسيمات الأصغر.
التفاعلات مع الماء: قلل التجفيف بدرجات حرارة عالية من النشاط المائي لكنه زاد من الميل لامتصاص الرطوبة من الجو، مما يستدعي تخزيناً محكماً.
رؤى متقدمة حول التجلط وسلوك البروتينات
تتأثر عملية تجلط مسحوق الحليب منزوع الدسم بعوامل عدة مثل تركيب البروتين، التاريخ الحراري وسلوك إعادة الذوبان. تُشكل الكازينات البنية الأساسية للشبكات الجيلية، بينما يمكن أن تتفاعل بروتينات الشرش مثل β-لاكتوغلوبولين مع κ-كازين أثناء المعالجة الحرارية لتعزيز صلابة الهلام. أوضحت الدراسة أن ارتفاع درجة حرارة الهواء الخارج سرّع من دنترة بروتينات الشرش، مما أدى إلى زيادة صلابة الهلام وتقليل وقت التجلط. ورغم أن هذا قد يُنظر إليه كفقدان غذائي، إلا أنه يحسّن الخصائص الوظيفية للنسيج.
أظهرت القياسات الريولوجية أن العينات المجففة عند درجات حرارة مرتفعة تمتلك معاملات مرونة ولزوجة أعلى، ما يدل على شبكات بروتينية أكثر استقراراً. أما العينات عند درجات منخفضة فأظهرت هلاماً ضعيفاً وبطيء التكوين. كما أوضحت صور المجهر الإلكتروني أن الجيلات ذات الظروف المثالية احتفظت بالماء بنسبة تصل إلى 98% مقارنة بنسبة أقل من 60–80% في الظروف الأقل ملاءمة.
اللون والصفات الحسية
المظهر البصري لـ SMP لا يتعلق فقط بالجماليات بل أيضاً بثقة المستهلك. أوضحت النتائج أن درجات الحرارة العالية زادت من تفاعلات ميلارد وأنتجت مسحوقاً أغمق، بينما ساعد الضغط المرتفع على تكوين جسيمات أصغر وأكثر لمعاناً، مما حافظ على سطوع اللون. هذا التوازن مهم خصوصاً في منتجات التغذية للأطفال أو المساحيق عالية الجودة.
توزيع حجم الجسيمات والجريان
كان الضغط العامل الأبرز في تحديد حجم الجسيمات. فالضغط المنخفض أعطى جسيمات كبيرة حسنت الجريان وسهّلت التداول الصناعي، لكن قللت الذوبانية. أما الضغط المرتفع فأنتج جسيمات صغيرة حسنت الذوبانية لكنها زادت من الالتصاق وضعف الجريان. وبذلك، يمكن تكييف ظروف التجفيف تبعاً للغرض الصناعي: مشروبات سريعة الذوبان أو مخابز تحتاج لمساحيق سهلة التداول.
التفاعلات مع الماء والاستقرار التخزيني
أثبتت الدراسة أن درجة الحرارة هي العامل الأكثر تأثيراً على استقرار التخزين. فالمساحيق المجففة بحرارة مرتفعة أظهرت نشاطاً مائياً منخفضاً، مما عزز الأمان الميكروبي، لكنها كانت أكثر ميلاً لامتصاص الرطوبة والتكتل. لذلك، تُعتبر التغليفات المقاومة للرطوبة والحفظ في بيئات مضبوطة الرطوبة ضرورياً في هذه الحالات.
دنترة البروتينات والآثار الغذائية
تبيّن أن بروتينات الشرش حساسة جداً للحرارة. فقد انخفض محتواها بشكل واضح مع ارتفاع درجات الحرارة، مما قلل الذوبانية لكنه عزز التجلط. من الناحية التغذوية، لا يؤدي الانحلال إلى فقد كامل للقيمة الغذائية إذ تبقى الأحماض الأمينية سليمة، لكنه قد يقلل من النشاط الحيوي للبروتين. هذا التوازن يختلف حسب الاستخدام: تغذية الأطفال تتطلب حفظ البروتينات، بينما صناعة الجبن تستفيد من دنترتها.
النمذجة الإحصائية والتحسين
استُخدمت منهجية سطح الاستجابة (RSM) لبناء نماذج تنبؤية دقيقة، حيث تجاوزت قيمة معامل التحديد (R²) في بعض الحالات 0.9. كما أظهر تحليل المكونات الرئيسية (PCA) أن درجة الحرارة ارتبطت بزيادة الصلابة وانخفاض وقت التجلط لكنها زادت دنترة البروتينات، في حين أن الضغط ارتبط أكثر بحجم الجسيمات والتماسك.
الأكثر ابتكاراً كان استخدام الخوارزمية الوراثية للتحسين متعدد الأهداف، حيث ولدت آلاف السيناريوهات وحددت جبهة "باريتو" المثلى التي توازن بين عدة خصائص وظيفية دون التضحية بإحداها على حساب الأخرى.
نتائج التحسين
قدمت الخوارزمية أربعة حلول مثالية:
- حرارة عالية + ضغط مرتفع: هلام قوي جداً لكن مع دنترة بروتينية أكبر.
- حرارة عالية + ضغط منخفض: هلام قوي وجسيمات أكبر تحسن الجريان لكنها أغمق لوناً.
- حرارة معتدلة + ضغط منخفض: أفضل حفظ للبروتينات لكن الهلام أضعف.
- حرارة معتدلة + ضغط متوسط: توازن بين الحفظ، الذوبانية والاستقرار.
أوضحت النتائج أن الظروف المثلى تعتمد على الهدف الصناعي: منتجات الألبان تحتاج جل قوي، بينما الصناعات الدوائية تحتاج حفظ البروتينات.
التحقق من الظروف المثلى
تم اختبار الظروف المثلى عملياً باستخدام حليب خام موسمي بتركيب مختلف قليلاً. أظهرت النتائج توافقاً جيداً مع النماذج التنبؤية، لكنها أبرزت أيضاً أن اختلاف تركيب الحليب الخام (حسب الموسم والتغذية) يؤثر بشكل واضح على الخصائص النهائية للمسحوق. ومع ذلك، تجاوزت خصائص التجلط والقوام التوقعات، مؤكدة نجاح إطار التحسين المستخدم.
الدلالات الصناعية
تُعد هذه النتائج ذات قيمة كبيرة للصناعات التي تعتمد على مسحوق الحليب منزوع الدسم:
- صناعة الألبان: تستفيد من ظروف حرارة وضغط مرتفعين لإنتاج هلام قوي وثابت.
- صناعة المشروبات: تحتاج مساحيق سريعة الذوبان بلون فاتح، ما يتحقق عند ضغط مرتفع وحرارة معتدلة.
- الأدوية والمكملات: تفضّل ظروف حرارة وضغط معتدلين للحفاظ على البروتينات الحساسة.
- التخزين والنقل: يتطلب تغليفاً محكماً ضد الرطوبة خصوصاً للمساحيق المنتجة عند درجات حرارة عالية.
التحديات والاتجاهات المستقبلية
رغم النتائج الواعدة، لا تزال هناك تحديات مثل:
- تأثير اختلاف تركيبة الحليب الخام حسب الموسم.
- خطر التكتل عند الرطوبة العالية.
- صعوبة نقل نتائج النطاق التجريبي إلى الإنتاج الصناعي واسع النطاق.
تشير التوجهات المستقبلية إلى دمج تقنيات التعلم الآلي والمراقبة اللحظية لزيادة دقة التنبؤ. كما يمكن لتصاميم مجففات جديدة أو مراحل تجفيف متعددة أن تقلل الآثار السلبية مع تحسين الخصائص الوظيفية.
الخلاصة
أظهرت الدراسة التأثير الحاسم لدرجة حرارة الهواء الخارج وضغط الرش على الخصائص الفيزيائية والوظيفية لمسحوق الحليب منزوع الدسم. الحرارة العالية حسّنت الجفاف والجريان والتجلط لكنها زادت من دنترة البروتين والرطوبة الممتصة. أما الضغط فحدد حجم الجسيمات واللون وبالتالي أثر على الذوبانية والجريان. من خلال النمذجة الإحصائية والخوارزمية الوراثية، حُددت ظروف مثالية تحقق توازناً بين مختلف الخصائص.
هذا النهج يفتح الباب أمام إنتاج مساحيق وظيفية مخصصة حسب احتياجات الصناعات المختلفة: من منتجات الألبان والمخبوزات إلى الأدوية والتغذية الطبية. يمثل إدخال الخوارزميات الوراثية في تحسين التجفيف بالرش خطوة متقدمة في هندسة الغذاء الحديثة.
المصدر
المقال الأصلي: Enhancing skimmed milk powder functionalities through multicriteria optimization of outlet drying air temperature and spraying air pressure, Journal of Food Engineering, Elsevier, 2024.